الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: فيض القدير شرح الجامع الصغير من أحاديث البشير النذير **
قال ابن المنير تبعاً للإمام الرازي اليدان والعينان صفات سمعية ضاق بيان وجه الاستعارة فيها ولم يمكن ردها لأن الشرع أثبتها ولم يمكن حملها على ظاهرها لأن العقل يأباه ولم يمكن حملها على الاستعارة في بعض الموارد فتعين ضرورة أن ثبتت صفات لا جوارح والمعطلة أسرفوا والمشبهة افتتنوا - (ك في التاريخ) تاريخ نيسابور (فر) وكذا أبو نعيم (عن أنس) ورواه عنه أيضاً أبو الشيخ [ابن حبان] في الثواب ومن طريقه وعنه أورده الديلمي مصرحاً فلو عزاه له كان أولى ثم إنه رمز لضعفه وسببه أن فيه محمد بن يعلي السلمي ضعفه الذهبي وغيره. 367 - (إذا أخذت) أي أتيت كما في خبر البراء (مضجعك) بفتح الجيم وكسرها محل نومك والمضجع موضع الضجوع يعني وضعت جنبك بالأرض لتنام (من الليل) بيان لزمن الاضطجاع وذكره للغالب فالنهار كذلك فيما أظن بل يظهر أنه لو أراد النوم قاعداً كان كذلك (فاقرأ) ندباً سورة - (حم د) في الأدب (ت) في الدعوات وقال حسن غريب (ك) في التفسير (هب) وكذا مالك في الموطأ في باب قل هو الله أحد ولعل المؤلف أغفله سهواً (عن نوفل) بفتح النون وسكون الواو وفتح الفاء (ابن معاوية) قال قلت يا رسول الله علمني شيئاً أقوله عند منامي فذكره وهو الديلمي بكسر فسكون صحابي تأخر موته وما جرى عليه المؤلف من صحابية نوفل بن معاوية، الظاهر أنه سبق قلم، وإنما هو نوفل بن فروة الأشجعي فإن ابن الأثير ترجم نوفل بن فورة هذا ثم قال حديثه في فضل قل يا أيها الكافرون مضطرب الإسناد ولا يثبت ثم ساق هذا الحديث بعينه وذكر أن أبا نعيم وابن عبد البر وابن المديني أخرجوه هكذا ثم ذكر بعده نوفل بن معاوية وذكر له حديثاً غير هذا (و) أبو القاسم (البغوي) في الصحابة (و) عبد الباقي (بن قانع) في معجمه (والضياء) المقدسي في المختارة كلهم (عن جبلة) بفتح الجيم والموحدة (ابن حارثة) قلت يا رسول الله علمني شيئاً ينفعني الله به فذكره، وجبلة هذا هو أخو زيد وعم أسامة وفد على النبي صلى الله عليه وسلم في طلب أخيه فأبى أن يرجع فرجع ثم عاد فأسلم، وتقديم المؤلف حديث نوفل يوهم أنه أمثل من جبلة وليس كذلك فقد قال ابن عبد البر حديث نوفل في قل يا أيها الكافرون مضطرب الإسناد لا يثبت انتهى. وقال في الإصابة: حديث [ص 252] جبلة هذا متصل صحيح الإسناد. وقال الهيتمي: رواه أبو يعلى بسند رجاله ثقات غير عطاء بن السائب فإنه اختلط. 368 - (إذا أدخل الله الموحدين) القائلين بأن الله واحد لا شريك له وهذا شامل لموحدي هذه الأمة وغيرها (النار) ليطهرهم والمراد بهم بعضهم وهو من مات عاصياً ولم يتب ولم يعف عنه (أماتهم فيها) لطفاً منه بهم وإظهاراً لأثر التوحيد بمعنى أنه يغيب إحساسهم أو يقبض أرواحهم بواسطة أو غيرها فعلى الثاني هو موت حقيقي وبه يتجه تأكيده بالمصدر في قوله (إماتة) وذلك لتحققهم بحقيقة لا إله إلا الله صدقاً بقلوبهم لكنهم لما لم يوفوا بشروطها عوقبوا بحبسهم عن الجنة والمسارعة إلى جوار الرحمن (فإذا أراد أن يخرجهم منها) أي بالشفاعة أو الرحمة (أمسهم) أي أذاقهم (ألم العذاب تلك الساعة) أي ساعة خروجهم. قال السخاوي: والعذاب إيصال الألم إلى الحي مع الهوان فإيلام الأطفال والحيوان ليس بعذاب انتهى. وقيل: سمي عذاباً لأنه يمنع المعاقب من المعاودة لمثل فعله وأصل العذاب المنع والمراد هنا عذاب نار الآخرة وهل هذا الإحساس عام أو خاص؟ احتمالان وعلى العموم يختلف هذا الألم باختلاف الأشخاص فبعضهم يكون تألمه في تلك الساعة اللطيفة شديداً وبعضهم يكون عليه كحر الحمام كما ورد في خبر. - (فر عن أبي هريرة) قال الهيتمي: فيه الحسن بن علي بن راشد صدوق رمي بشيء من التدليس وأورده الذهبي في الضعفاء. 369 - (إذا ادهن أحدكم) افتعل أي أراد دهن شعر رأسه بالدهن (فليبدأ) إرشاداً (بحاجبيه) وهما العظمان فور العينين يلجمهما وشعرهما أو شعرهما وحده كذا في القاموس وظاهر أن المراد هنا الشعر والبشرة. قال الراغب: والحاجب المانع عن السلطان والحاجبان في الرأس سميا به لكونهما كالحاجبين للعينين في الذب عنهما (فإنه) أي الدهن (يذهب بالصداع) لفظ رواية الديلمي فإنه ينفع من الصداع والصداع بالضم وجع الرأس وإنما يذهب به لأنه يفتح المسام فيخرج البخار المنحبس في الرأس وقال الحكيم حكمة البداءة بالحاجبين أن أول ما ينبت على ابن آدم من الشعر شعر الحاجبين فإذا بدأ بهما في المشط والدهن فقد أدى حقه لكونه بدئ به في الخلقة وقوله يذهب بفتح أوله أي إذا دهن به الرأس الذي فيه صداع بالدهن فلا يذهب الدهن أي يجف حتى يذهب بالصداع معه ويحتمل كونه بضم أوله والباء زائدة أي يذهب الصداع. - (ابن السني وأبو نعيم في) كتاب (الطب) النبوي (وابن عساكر) في تاريخه (عن قتادة) بن دعامة السدوسي المحدث المفسر الفقيه (مرسلاً فر) وكذا الحكيم الترمذي (عنه) أي عن قتادة (عن أنس) قال في الأصل وسنده ضعيف لأن فيه بقية والكلام فيه معروف وجبلة بن دعلج ضعفه أحمد والدارقطني ثم الذهبي. 370 - (إذا أدى العبد) أي الإنسان المؤمن الذي به رق أو كان أنثى أو خنثى (حق الله) أي ما أمره به من نحو صلاة وصوم واجتناب منهي (وحق مواليه) أي ملاكه من نحو خدمة ونصح (كان له أجران) أجر قيامه بحق الله وأجر نصح سيده وإحسانه خدمته ولا يقتضي ذلك تفضيله على الحر لأن جهات الفضل لا تحصى أو المراد ترجيح من أدى الحقين على من أدى أحدهما ومن يؤتى أجره مرتين نحو أربعين نظمها المؤلف وغيره. قال الحراني: والأجر في الأصل جعل العامل على عمله والمراد به أي في لسان الشارع عليه الصلاة والسلام الثواب الذي وعد به على تلك الأعمال المشروطة بالإيمان. - (حم م عن أبي هريرة) [ص 253] 371 - (إذا أديت زكاة مالك) الذي وجبت عليك فيه زكاة أي دفعتها إلى المستحقين أو الإمام أو نائبه (فقد قضيت) أي أديت قال تعالى - (ت) وقال حسن غريب (ه ك) في الزكاة وصححه وأقره الذهبي (عن أبي هريرة) رضي الله تعالى عنه قال: قال رجل يا رسول الله أرأيت إن أدى الرجل زكاة ماله فذكره قال العراقي في شرح الترمذي وهو على شرط ابن حبان في صحيحه انتهى لكن جزم ابن حجر تلميذه بضعفه. 372 - (إذا أديت زكاة مالك) بكسر الكاف الخطاب لأم سلمة لكنه عام الحكم (فقد أذهبت عنك شره) الدنيوي الذي هو تلفه ومحق البركة منه والأخروي الذي هو العذاب وفي إفهامه أنه إذا لم يؤدها فهو شر عليه فيمثل له شجاع أقرع له زبيبتان يطوقه يوم القيامة وتطؤه الغنم بأظلافها وتنطحه بقرونها إلى غير ذلك من ضروب العذاب المفصلة في الأخبار، ومن كلامهم البديع: أيّ مال أديت زكاته درت بركاته. - (ابن خزيمه) في صحيحه (ك) في الزكاة وقال على شرط مسلم وأقره الذهبي في التلخيص (عن جابر) مرفوعاً وموقوفاً. قال الذهبي في المهذب: والأصح أنه موقوف وقال ابن حجر في الفتح: إسناده صحيح لكن رجح أبو زرعة رفعه وله شاهد أيضاً. 373 - (إذا أذن) بالبناء للمجهول (في قرية) أو بلد أو نحوها من أماكن الاجتماع (آمنها الله) بالقصر والمد أي أمن أهلها (من عذابه) أي من إنزال عذابه بهم (في ذلك اليوم) الذي أذن فيه أو في تلك الليلة كذلك ثم يحتمل عمومه فلا يحصل لهم بلاء من فوقهم ولا من تحتهم ولا يسلط عليهم عدواً ويحتمل اختصاصه بمنع الخسف والمسخ والقذف بالحجارة ونحو ذلك ويحتمل منع المسلمين من قتالهم لأن الأذان من شعار الدين فإذا سمعه منهم من يريد قتالهم لزمه الكف . ذكر الإمام الرازي في الأسرار أن الماء زاد ببغداد حتى أشرفت على الغرق فرأى بعض الصلحاء في النوم كأنه واقف على طرف دجلة وهو يقول لا حول ولا قوة إلا بالله غرقت بغداد فجاء شخصان فقال أحدهما لصاحبه ما الذي أمرت به قال بتغريق بغداد ثم بهيت قال ولم قال رفعت ملائكة الليل أن البارحة افتض ببغداد سبع مئة فرج حرام فغضب الله فأمرني بتغريقها ثم رفعت ملائكة النهار في صبح ذلك اليوم سبع مئة أذان وإقامة فغفر الله تعالى لهؤلاء بهؤلاء، فانتبه وقد نقص الماء. - (طص عن أنس) وفيه عبد الرحمن بن سعد ضعفه ابن معين وغيره وظاهر تخصيصه المعجم الصغير بالعزو أنه لم يخرجه إلا فيه والأمر بخلافه فقد خرجه في معاجيمه الثلاثة، هكذا ذكره المنذري وضعفه. 374 - (إذا أذن المؤذن) أي أخذ في الأذان (يوم الجمعة) بعد جلوس الخطيب على المنبر وهي بسكون الميم بمعنى المفعول أي اليوم المجموع فيه وبفتحها بمعنى الفاعل أي اليوم الجامع للناس ويجوز الضم والتاء فيه ليست للتأنيث لأنه صفة لليوم بل للمبالغة كرجل علامة أو هو صفة للساعة (حرم) على من تلزمه الجمعة (العمل) أي الشغل عن السعي إليها بما يفوتها من الأعمال كبيع وإجارة وغيرهما لقوله تعالى - (فر عن أنس) وفيه عبد الجبار القاضي أورده الذهبي في الضعفاء وقال كان داعية للاعتزال وفي الميزان من غلاة المعتزلة وإبراهيم بن الحسين الكسائي قال في اللسان ما علمت أحداً طعن فيه حتى وقفت في جلاء الأفهام لابن القيم على أنه ضعيف وما أظنه إلا التبس عليه وسعيد بن ميسرة قال ابن حبان يروي الموضوع وفي الكامل مظلم الأمر وفي الميزان كذبه القطان. 375 - (إذا أراد الله بعبد خيراً) أي كمالاً عظيماً قيل المراد بالخير المطلق الجنة وقيل عموم خيري الدنيا والآخرة (جعل صنائعه) أي فعله الجميل جمع صنيعة وهي العطية والكرامة والإحسان (ومعروفه) أي حسن صحبته ومواساته (في أهل الحفاظ) بكسر الحاء وخفة الفاء أي أهل الدين والأمانة الشاكرين للناس لأن الصنيعة لا يعتد بها إلا أن تقع موقعها وفي الفردوس قال حسان بن ثابت: إن الصنيعة لا تكون صنيعة * حتى يصاب بها طريق المصنع فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم صدقت والإرادة نزوع النفس وميلها إلى الشيء وهي نقيض الكراهة التي هي النفرة وإرادة الله ليست بصفة زائدة على ذاته كإرادتنا بل هي عين حكمته التي تخصص وقوع الفعل على وجه دون آخر وحكمته عين علمه المقتضي لنظام الأشياء على الوجه الأصلح والترتيب الأكمل وانضمامها مع القدرة هو الاختيار (وإذا أراد الله بعبد شراً) أي خذلاناً وهواناً (جعل صنائعه ومعروفه في غير أهل الحفاظ) أي جعل عطاياه وفعله الجميل في غير أهل الدين والأمانة وصرح بالثاني مع فهمه من الأول حثاً للإنسان على أنه ينبغي له أن يقصد بمعروفه أهل المعروف ويتحرى إيقاعه فيهم قال بعض الحكماء والمصطنع إلى اللئيم كمن أعطى الخنزير دراً وقرظ الكلب تبراً وألبس الحمار وشياً وألقم الحية شهداً وقال ابن غزية: خمسة أشياء ضائعة سراج في شمس وحسناء تزف لأعمى ومطر في سبخة وطعام قدم لشبعان وصنيعة عند من لا يشكرها، فينبغي للإنسان تحري اختيار المصرف حتى تقع العطية في المحل اللائق ويسلم من مخالفة الحكمة قال الشاعر: إنما الجود أن تجود على من * هو للفضل والكرامة أهلا وقال المتنبي: ووضع الندى في موضع السيف بالعلا * مضر كوضع السيف في موضع الندى - (فر عن جابر) ورواه عنه أيضاً ابن لال وعنه في طريقه عنه خرجه الديلمي فلو عزاه له كان أولى ثم إن فيه خلف بن يحيى قال الذهبي عن أبي حاتم كذاب فمن زعم صحته فقد غلط. 376 - (إذا أراد الله بعبد خيراً جعل غناه في نفسه) أي جعله قانعاً بالكفاف لئلا يتعب في طلب الزيادة وليس له إلا ما قدر له والنفس معدن الشهوات وشهواتها لا تنقطع فهي أبداً فقيرة لتراكم ظلمات الشهوات عليها فهي مفتونة بذلك وخلصت فتنتها إلى القلب فصار مفتوناً فأصمته عن الله وأعمته لأن الشهوات ظلمة ذات رياح هفافة والريح إذا وقع في أذن أحد أصم والظلمة إذا وقعت في العين أعمت فلما صارت الشهوة من النفس إلى القلب حجبت النور فعميت وصمت فإذا أراد الله بعبد خيراً قذف في قلبه النور فأضاء ووجدت النفس لها حلاوة وروحاً ولذة تلهي عن لذات الدنيا وشهواتها وتذهب مخاوفها وعجلتها وحرقتها وتلهبها فيطمئن القلب فيصير غنياً بالله والنفس جارة وشريكة ففي غنى الجار غنى وفي غنى الشريك غنى (وتقاه) بضم المثناة فوق وخفة القاف خوفه من ربه (في قلبه) بأن يقذف فيه [ص 255] نور اليقين فينخرق الحجاب ويضيء الصدر فذلك تقواه يتقي بها مساخط الله ويتقي بها حدوده. وبه يؤدي فرائض ربه وبه يخشاه فيصير ذلك النور وقايته (وإذا أراد الله بعبد شراً جعل فقره بين عينيه) كناية عن كونه يصير مستحضراً له أبداً ومشفقاً من الوقوع فيه سرمداً فهو نصب عينيه على طول المدى فلا يزال فقير القلب حريصاً على الدنيا متهافتاً عليها منهمكاً في تحصيلها وإن كان موسراً ممتد الطمع وإن طال الأمد فلا يزال بين طمع فارغ وأمل كاذب حتى توافيه المنية وهو على هذه الحالة الردية وذلك من علامات سوء الخاتمة، والإرادة نزوع النفس وميلها إلى الفعل بحيث تحملها عليه وتقال للقوة التي هي مبدأ النزوع والأول مع الفعل والثاني قبله وكلاهما لا يتصور اتصاف الباري تبارك وتعالى به ولذلك اختلف العلماء في معنى إرادته فقيل إرادته الأفعال أنه غير ساه ولا مكره وقيل اشتمال الأمر على النظام الأكمل والوجه الأصلح والحق أنها ترجيح أحد مقدوريه على الآخر وتخصيصه بوجه دون وجه أو معنى يوجب هذا الترجيح ذكره القاضي. - (الحكيم) الترمذي (فر عن أبي هريرة) كتب الحافظ ابن حجر على هامش الفردوس بخطه ينظر في هذا الإسناد انتهى وأقول فيه دراج أبو السمح نقل الذهبي عن أبي حاتم تضعيفه وقال أحمد أحاديثه مناكير. 377 - (إذا أراد الله بعبد خيراً) أي عظيماً (فقهه في الدين) أي فهمه الأحكام الشرعية بتصورها والحكم عليها أو باستنباطها من أدلتها، وكل ميسر لما خلق له، هذا ما عليه الجمهور، قال الغزالي: أراد العلم بالله وصفاته التي تنشأ عنها المعارف القلبية لأن الفقه المتعارف وإن عظم نفعه في الدين لكنه يرجع إلى الظواهر الدينية إذ غايته نظر الفقيه في الصلاة مثلاً الحكم بصحتها عند توفر الواجبات وفائدته سقوط الطلب في الدنيا وأما قبولها وترتب الثواب فليس من تعقله بل يرجع إلى عمل القلب وما تلبس به من نحو خشية ومراقبة وحضور وعدم رياء ونحو ذلك فهذا لا يكون أبداً إلا خالصاً لوجه الله فهو الذي يصلح كونه علامة على إرادة الخير بالعبد وأما الفقهاء فهم في واد والمتزودون للآخرة بعلمهم في واد، ألا ترى إلى قول مجاهد إنما الفقيه من يخاف الله؟ وقول الحسن لمن قال قال الفقهاء وهل رأيت فقيهاً إنما الفقيه الزاهد في الدنيا الراغب في الآخرة. والفقه في المعرفة أشرف كل معلوم لأن كل صفة من صفاته توجب أحوالاً ينشأ عنها التلبس بكل خلق سني وتجنب كل خلق رديء فالعارفون أفضل الخلق فهو بالإرادة أخلق وأحق وأما تخصيص الفقه بمعرفة الفروع وعللها فتصرف حادث بعد الصدر الأول (وزهده) بالتشديد صيره زاهداً (في الدنيا) أي جعل قلبه معرضاً عنها مبغضاً محقراً لها رغبة به عنها تكريماً له وتطهيراً عن أدناسها ورفعة عن دناءتها (وبصره) بالتشديد (عيوبه) أي عرفه بها وأوضحها له ليتجنبها كأمراض القلب من نحو حسد وحقد وغل وغش وكبر ورياء ومداهنة وخيانة وطول أمل وقسوة قلب وعدم حياء وقلة رحمة وأمثالها قال الطيبي: وهذا إشارة إلى الدرجة الثانية يعني لما زهد في الدنيا علامة إرادة الله الخير بعبده قال الغزالي: والزهد فيها أن تنقطع همته عنها ويستقذرها ويستنكرها فلا يبقى لها في قلبه اختيار ولا إرادة والدنيا وإن كانت محبوبة مطلوبة للإنسان بطبعه لكن لمن وفق التوفيق الخاص وبصره الله بآفاتها تصير عنده كالجيفة وإنما يتعجب من هذا الراغبون في الدنيا العميان عن عيوبها وآفاتها المغترون بزخرفها وزينتها ومثل ذلك كإنسان صنع حلواً من أغلى السكر وعجنها بسم قاتل وأبصر ذلك رجل ولم يبصره آخر ووضعه بينهما ومن أبصر ما جعل فيه من السم زهده وغيره يغتر بظاهره فيحرص عليه ولا يصبر عنه. - (هب عن أنس) بن مالك (و) عن (محمد بن كعب القرظي) بضم القاف وفتح الراء [ص 256] ومعجمة نسبة لقريظة اسم لرجل نزل أولاده حصناً بقرب المدينة وهو أخو النضير وهما من ولد هارون عليه الصلاة والسلام (مرسلاً) ورواه الديلمي في مسند الفردوس عن أنس أيضاً قال العراقي: وإسناده ضعيف جداً وقال غيره واه. 378 - (إذا أراد الله بعبد خيراً جعل له من نفسه واعظاً) ناصحاً ومذكراً بالعواقب (من) وفي بعض النسخ في (نفسه) لفظ رواية الديلمي من قلبه (يأمره) بالخيرات (وينهاه) عن المنكرات ويذكره بالعواقب فيقطع العلائق والأسباب الداعية إلى موافقة النفس والشيطان ويصرف هواه إلى ما ينفعه ويستعمله في تنفيذ مراد ربه ويفرغ باله لأمر الآخرة فيقبل الله عليه برحمته ويفيض عليه من نعمته وفي معناه ما قيل من كان في عمل الله كان الله في عمله وإذا صدقت إرادة العبد وصفت همته وحسنت مواظبته ولم تجاذبه شهواته ولم يشغله حديث النفس بعلائق الدنيا بلغ الحق في قلبه. - (فر) وكذا ابن لال ومن طريقه وعنه رواه الديلمي مصرحاً فلو عزاه له لكان أولى (عن أمّ سلمة) قال الحافظ العراقي وغيره إسناده جيد كذا جزم به في المعنى ولم يرمز له المؤلف بشيء. 379 - (إذا أراد الله بعبد خيراً عسله) بفتح العين والسين المهملتين تشدّد وتخفف أي طيب ثناءه بين الناس من عسل الطعام يعسله إذا جعل فيه العسل ذكره الزمخشري (قيل) أي قالوا يا رسول الله (وما عسله) أي ما معناه (قال يفتح له عملاً صالحاً قبل موته ثم يقبضه عليه) فهذا من كلام الراوي لا المصطفى صلى الله عليه وسلم شبه ما رزقه الله من العمل الصالح الذي طاب ذكره وفاح نشره بالعسل الذي هو الطعام الصالح الذي يحلو به كل شيء ويصلح كل ما خالطه ذكره الزمخشري، قال الحكيم الترمذي فهذا عبد أدركته دولة السعادة فأصاب حظه ومراده بعد ما قطع عمره في رفض العبودية وتعطيلها وعطل الحدود وأهمل الفرائض فلما قرب أوان شخوصه إلى الحق أدركته السعادة بذلك الحظ الذي كان سبق له فاستنار الصدر بالنور وانكشف الغطاء فأدركته الخشية وعظمت مساويه عنده فاستقام أمره فعمل صالحاً قليلاً فأعطى جزيلاً. - (حم طب عن أبي عنبة) بكسر العين المهملة وفتح النون الخولاني واسمه عبد الله بن عنبة أو عمارة قال ابن الأثير اختلف في صحبته قيل أدرك النبي صلى الله عليه وسلم ولم يره وقيل صلى للقبلتين وقيل أسلم قبل موت النبي صلى الله عليه وآله وسلم ولم يره. قال الهيتمي: وفيه بقية مدلس وقد صرح بالسماع في المسند وبقية رجاله ثقات انتهى ومن ثم رمز المؤلف لحسنه. 380 - (إذا أراد الله بعبد خيراً استعمله، قيل) أي قال بعض الصحب يا رسول الله (وما استعمله) أي ما المراد به (قال يفتح له عملاً صالحاً) بأن يوفقه له (بين يدي موته) أي قرب موته فسمى ما قرب منه باليدين توسعاً كما يسمى الشيء باسم غيره إذا جاوره ودنا منه وقد جرت هذه العبارة هنا على أحسن سنن ضرب المثل (حتى يرضى عنه) بضم أوله والفاعل الله تعالى ويجوز فتحه والفاعل (من حوله) من أهله وجيرانه ومعارفه فيبرؤن ذمّته ويثنون عليه خيراً فيجيز الرب شهادتهم ويفيض عليه رحمته وتفريغ المحل شرط لدخول غيث الرحمة فمتى لم يفرغ المحل لم يصادف الغيث [ص 257] محلاً قابلاً للنزول وهذا كمن أصلح أرضه لقبول الزرع ثم يبذر فإذا طهر العبد تعرض لنفحات رياح الرحمة ونزول الغيث في أوانه وحينئذ يكون جديراً بحصول الغلة. أشار المؤلف بالجمع بين هذين الحديثين في موضع إلى رد قول ابن العربي الرواية استعمله وأما عسله فهو تصحيف فبين أنه غير صحيح. - (حم ك) في الجنائز (عن عمرو بن الحمق) بفتح المهملة وكسر الميم بعدها قاف ابن كاهل ويقال كاهن - بالنون - ابن حبيب الخزاعي سكن الكوفة ثم مصر له صحبة قتل بالموصل في خلافة معاوية قال الحاكم صحيح وقال الهيتمي رجال أحمد رجال الصحيح. 381 - (إذا أراد الله بعبد خيراً استعمله، قيل كيف يستعمله؟ قال يوفقه لعمل صالح) يعمله (قبل الموت ثم يقبضه عليه) أي يلهمه التوبة وملازمة العمل الصالح كما يحب وينبغي حتى يملّ الخلق ويستقذر الدنيا ويحن إلى الموت ويشتاق إلى الملأ الأعلى فإذا هو يرسل الله تعالى يردون عليه بالروح والريحان والبشرى والرضوان من رب راض غير غضبان فينقلونه من هذه الدار الفانية إلى الحضرة العالية الباقية فيرى لنفسه الضعيفة الفقيرة نعيماً مقيماً وملكاً عظيماً. - (حم ت حب ك عن أنس) بن مالك. 382 - (إذا أراد الله بعبد خيراً طهره قبل موته قالوا) له (وما طهور العبد) بضم الطاء أي ما المراد بتطهيره (قال عمل صالح يلهمه) أي يلهمه الله تعالى (إياه) والإلهام ما يلقى في الروع بطريق الفيض ويدوم كذلك (حتى يقبضه عليه) أي يميته وهو متلبس به قال في المصباح قبضه الله أماته وفي الأساس: من المجاز قبض على غريمه وعلى العامل وقبض فلان إلى رحمة الله تعالى وهو عما قليل مقبوض فمن أراد الله به خيراً طهره من المادّة الخبيثة قبل الوفاة حتى لا يحتاج لدخول النار ليطهره فيلهمه الله تعالى التوية ولزوم الطاعات وتجنب المخالفات أو يصاب بالمصائب وأنواع البلاء المكفرات ليطهر من خبائثه مع كراهته لما أصابه - (طب عن أبي أمامة) لم يرمز له بشيء وسها من زعم أنه رمز لضعفه قال الهيتمي: ورواه الطبراني من عدة طرق وفي أحدها بقية بن الوليد وقد صرح بالسماع وبقية رجاله ثقات انتهى فالحكم عليه بالضعف في غاية الضعف. 383 - (إذا أراد الله بعبد خيراً صير) بالتشديد (حوائج الناس إليه) أي جعله ملجأ لحاجاتهم الدينية والدنيوية ووفقه للقيام لها وألقى عليه شراشر المهابة والقبول وسدده فيما يفعل ويقول. - (فر عن أنس) قال العراقي فيه يحيى بن شبيب ضعفه ابن حبان وقال الذهبي عن ابن حبان لا يحتج به. 384 - (إذا أراد الله بعبد خيراً عاتبه في منامه) أي لامه على تفريطه وحذره من تقصيره برؤيا يراها في منامه فيكون على بصيرة من أمره وبينة من ربه وينتبه من سنة الغفلة ويذكر رقدة الذلة كما وقع لأبي أسيد الأنصاري رضي الله تعالى عنه أنه كان من ورده قراءة سورة البقرة كل ليلة فأغفلها ليلة فرأى بقرة تنطحه فحلف أن لا يعود رواه الترمذي.[ص 258] - (فر عن أنس) وفيه وهب بن راشد قال الذهبي عن الدارقطني متروك وعن ضرار بن عمرو متروك وعلي الرقاشي متروك. 385 - (إذا أراد الله بعبده الخير) كذا هو في خط المؤلف وفي نسخ بعبد خيراً ولا أصل له في نسخته (عجل) بالتشديد أسرع (له العقوبة) بصب البلاء والمصائب عليه (في الدنيا) جزاء لما فرط منه من الذنوب فيخرج منها وليس عليه ذنب يوافى به يوم القيامة كما يعلم من مقابلة الآتي ومن فعل ذلك معه فقد أعظم اللطف به لأن من حوسب بعمله عاجلاً في الدنيا خف جزاؤه عليه حتى يكفر عنه بالشوكة يشاكها حتى بالقلم الذي يسقط من الكاتب فيكفر عن المؤمن بكل ما يلحقه في دنياه حتى يموت على طهارة من دنسه وفراغ من جنايته كالذي يتعاهد ثوبه وبدنه بالتنظيف قاله الحراني (وإذا أراد بعبده الشر) وفي رواية شراً (أمسك عنه بذنبه) أي أمسك عنه ما يستحقه بسبب ذنبه من العقوبة في الدنيا (حتى يوافى به يوم القيامة) إن لم يدركه العفو - (ت) في الزهد وقال حسن غريب (ك) في الحدود من حديث سعد بن سنان (عن أنس) قال الذهبي في موضع: سعد ليس بحجة وفي آخر كأنه غير صحيح (طب ك) وكذا أحمد ولعله أغفله ذهولاً (عن عبد الله بن مغفل) بضم الميم وفتح المعجمة وشد الفاء أي عبد الرحمن المزني الأنصاري من أصحاب الشجرة قال: لقي رجل أمرأة كانت بغياً فجعل يداعبها حتى بسط يده إليها فقالت مه فإن الله قد أذهب الشرك فولى فأصابه الحائط فشجه فأتى النبي صلى الله عليه وسلم وأخبره فقال له أنت عبد أراد الله بك خيراً ثم ذكره قال الهيتمي رجال أحمد رجال الصحيح وكذا أحد إسنادي الطبراني وطريقه الآخر فيه هشام بن لاحق ترك أحمد حديثه وضعفه ابن حبان (طب عن عمار بن ياسر) قال: مرت امرأة برجل فأحدق بصره إليها فمر بجدار فلمس وجهه فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يسيل دماً فقال: هلكت قال: وما أهلكك قال: خرجت من منزلي فإذا أنا بامرأة فأتبعتها بصري فأصاب وجهي الجدار فأصابني ما ترى فذكره رمز المؤلف لصحته. 386 - (إذا أراد الله بعبد خيراً فقهه في الدين وألهمه رشده) أي وفقه لإصابة الرشد وهو إصابة الحق ذكره القاضي. قال الزمخشري: والرشد الاهتداء لوجوه المصالح قال تعالى - (البزار) وكذا الطبراني في الكبير من هذا الطريق بهذا اللفظ ولعله غفل عنه (عن ابن مسعود) قال المنذري إسناده لا بأس به وقال الهيتمي: رجاله موثوقون وحينئذ فرمز المؤلف لحسنه لا يكفي بل حقه الرمز لصحته وظاهر كلامه أنه لم يخرجه أحد من الستة والأمر بخلافه فقد أخرجه الترمذي باللفظ المزبور من حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما. 387 - (إذا أراد الله بعبد خيراً فتح) بالتحريك (له قفل قلبه) بضم القاف وسكون الفاء أي أزال عن قلبه حجب الأشكال وبصر بصيرته مراتب أهل الكمال حتى يصير قابلاً للفيض السبحاني مستمداً للإمداد الرحمني فإذا هبت رياح الألطاف انكشفت الحجب عن أعين القلوب وفاضت الرحمة وأشرق النور وانشرح الصدر وانكشف للقلب سر الملكوت من وراء ستر الغيب غرائب العلوم تارة كالبرق الخاطف وأخرى على التوالي إلى حد مّا وداومه في غاية الندور وتعلق جمع صوفية منهم البوني بإناطة ذلك بمجرد الإرادة على أنه لا يحصل بالعلوم التعليمية قالوا لا طريق إلا الاستعداد بالتصفية المجردة ومحو الصفات المذمومة وقطع العلائق واحضار الهمة مع الإرادة الصادقة والتعطش التام والترصد بدوام الانتظار لما يفتح الله إذ الأنبياء والأولياء انكشفت لهم الأمور وفاض على صدورهم النور لا بالدراسة للكتب بل بالزهد في الدنيا والتبري من علائقها والتفرغ من عوائقها والإقبال بكنه الهمة على الله فمن كان لله كان الله تعالى له انتهى ونوزع بما حاصله أن تقديم تعلم الأحكام متعين معين وأجاب الغزالي رحمه الله تعالى بأن القرآن مصرح بأن التقوى مفتاح الهداية والكشف وذلك علم من غير تعلم وأصل الفتح زوال الإشكال والغلق صورة أو معنى والقفل واحد الأقفال (وجعل فيه) أي في قلبه (اليقين) أي العلم المتوالي بسبب النظر في المخلوقات أو ارتفاع الريب ومشهد الغيب وقد وصف الله المؤمنين بالإيمان بالغيب والإيمان التصديق وإنما يصدق المرء الشيء حتى يتقرر عنده فيصير كالمشاهد والمشاهدة بالقلب هو اليقين. قال الخواص رحمه الله تعالى: لقيت شاباً بالبادية كأنه سبيكة فضة فقلت إلى أين قال إلى مكة قلت بلا زاد ولا راحلة قال يا ضعيف اليقين الذي يقدر على حفظ السماوات والأرض لا يقدر أن يوصلني إلى مكة بلا علاقة؟ (والصدق) أي التصديق الدائم الجازم الذي ينشأ عنه دوام العمل، والصدق وإن شاع في خصوص الأقوال لكن يستعمل في بعض الموارد في بعض الأحوال كما بينه أهل الكمال ومن لم يبصر الخير بقلبه ويصدق به لم يتيقنه وإن صدق بلسانه بل هو في عماء وحيرة (وجعل قلبه واعياً) أي حافظاً (لما سلك) أي دخل فيه حتى ينجع (فيه) الوعظ القليل والنصيحة اليسيرة والوعي الحفظ يقال وعيت الحديث حفظته وتدبرته (وجعل قلبه سليماً) من الأمراض كحسد وحقد وكبر وغيرها (ولسانه [ص 260] صادقاً) لتعظيم حرمته وتظهر ملاحته إذ اللسان الصادق من أعظم المواهب الربانية وبه يستقيم حال العبد في أحواله الدينية والدنيوية. قال الحراني: والصدق مطابقة ظاهر النطق والفعل بباطن الحال (وخليقته) سجيته وطبيعته مستقيمة معتدلة متوسطة بين طرفي الإفراط والتفريط والاستقامة كون الخط بحيث ينطق أجزاؤه المفروضة بعضها على بعض وفي إصلاح أهل الحقيقة الوفاء بالعهود وملازمة الطريق المستقيم برعاية حق التوسط في كل أمر ديني ودنيوي فذلك هو الصراط المستقيم (وجعل أذنه سميعة) صيغة مبالغة أي مستمعة لما ينفعه في الآخرة مقبلة على ما يسمعه من ذكر الله متأملة لنصوص كلامه مصغية لأوامره وزواجره وأحكامه (وعينه) أي عين قلبه (بصيرة) فيبصر بها ما جاء من الشارع ويتنبأ ويفهم وإن لم يفهم فانهتك عن قلبه ستر الغيوب فشهد الخير عياناً ولزم طريق الكتاب والسنة إيقاناً ولم يلتبس عليه المنهاج الواضح المستبين فصار من المهتدين وخص هذه الجوارح بالذكر لأن منها يكون الخير والشر وعليها مدار النفع والضر. قال في الكشاف: والبصر نور العين وهو ما يبصر به المرئيات كما أن البصيرة نور القلب وهو ما يستبصر ويتأمل فكأنهما جوهران لطيفان خلقهما الله تعالى آلتين للإبصار وللإستبصار انتهى. وقال الراغب: البصر يقال للجارحة الباصرة والقوة التي فيها ويقال لقوة القلب المدركة بصيرة وبصر والضرير يقال له بصير لما له من قوة بصيرة القلب لا لما قيل إنه على العكس وقال بعض أهل الوفاء البصيرة فقه القلب في حل أشكال مسائل الخلاف فيما لا يتعلق العلم به تعلق القطع وحقيقتها نور يقذف في القلب يستدل به العقل الخابط عشواء على سبيل الإصابة وعين البصيرة أتم في النظر من عين البصر لأن جميع ما حواه العالم تتصرف في جميعه والحكم عليه حكماً يقيناً صادقاً والعين لا تبصر ما بعد ولا ما قرب قرباً مفرطاً ومن ثم قال الغزالي: العقل متصرف في العرش والكرسي وما وراء السماوات والملأ الأعلى كتصرفه في عالمه ومملكته القريبة أعني بدنه الخاص بل الحقائق كلها لا تحتجب عن العقل وإنما حجابه بسبب صفات تقارنه من نفسه تضاهي حجاب العين عند تغميض الأجفان انتهى. وقد انكشف من هذا البيان أن علامة إرادة الله الخير بعبده أن يتولى أمره ظاهره وباطنه سره وعلنه فيكون هو المشير عليه والمدبر لأمره والمزين لأخلاقه والمستعمل لجوارحه والمسدد لظاهره وباطنه والجاعل همومه هماً واحداً والمبغض للدنيا في قلبه والموحش له من غيره والمؤنس له بلذة مناجاته في خلواته والكاشف عن الحجب بينه وبين معرفته فذلك من علامات حب الله لعبده . قال الشبلي: استنار قلبي يوماً فشهدت ملكوت السماوات والأرض فوقعت مني هفوة فحجبت عن شهود ذلك فعجبت كيف حجبني هذا الأمر الصغير عن هذا الأمر الكبير فقيل لي: البصيرة كالبصر أدنى شيء يحل فيها يعطل النظر. - (أبو الشيخ [ابن حبان]) في الثواب (عن أبي ذر) وفيه سعيد بن إبراهيم قال الذهبي مجهول عن عبد الله بن رجاء قال أبو حاتم ثقة وقال الفلاس كثير الغلط والتصحيف ليس يحجة عن سرجس بن الحكم بن عامر بن وائل قال ابن خزيمة أنا أبرأ من عهدتهما. 388 - (إذا أراد الله بأهل بيت خيراً) نكره لإفادة التعميم أي إذا أراد جميع الخير والمقام يقتضيه (فقههم في الدين) أي جعلهم فقهاء فيه والفقه لفة الفهم أو لما دق وعرفاً العلم بالأحكام الشرعية التي طريقها الاجتهاد وقيل معرفة النفس ما لها وعليها عملاً، قال الكرماني: والأنسب هنا المعنى اللغوي ليشمل فهم كل علم من علوم الدين. وقال الغزالي: أراد فهمهم أمره ونهيه بنور رباني يقذفه في قلوبهم (ووقر) بشد القاف عظم ويجل (صغيرهم كبيرهم) في السن أو المراد بالكبير العالم وبالصغير غيره أي ورحم كبيرهم صغيرهم كما يدل عليه خبر ليس منا من لم يرحم صغيرنا ويعرف حق كبيرنا وإنما لم يذكره هنا لأنه كان يخاطب كل أحد بما يليق بحاله ففهم من المخاطب التقصير في التوقير دون القرينة الثانية (ورزقهم الرفق) بكسر الراء اللطف والدربة وحسن التصرف والسياسة (في معيشتهم) أي ما يتعيشون به أو ما يتوصلون به إلى العيش أي إلى الحياة وفي ذلك البركة والنمو كما صرح به في خبر الخرق شؤم والرفق يمن ثم عطف عليه عطف خاص على عام اهتماماً بشأنه بقوله (والقصد) بفتح وسكون (في نفقاتهم) [ص 261] أي الوسط المعتدل بين طرفي الإفراط والتفريط فيها قال تعالى والعلم يجلو العمى عن قلب صاحبه * كما يجلي سواد الظلمة القمر والعلم فيه حياة للقلوب كما * تحيا البلاد إذا ما مسها المطر - (قط) في كتاب (الأفراد) بفتح الهمزة (عن أنس) وقال غريب تفرد به ابن المنكدر عنه ولم يروه عنه غير موسى ابن محمد بن عطاء وهو متروك انتهى وفي ل؟؟ [أحرف ساقطة في الأصل.] كذبه أبو زرعة وأبو حاتم 389 - (إذا أراد الله بقوم) قال الحراني: هم الذين يقومون بالأمر حق القيام وهم في عرف استعمال العرب لأهل النجدة والقوة حتى يقولون قوم أم نساء تقابلاً بين المعنيين (خيراً أكثر فقهاءهم) أي علمائهم بالأحكام الشرعية الفرعية أو الأصولية (وأقل جهالهم) بالضم والتشديد (فإذا تكلم الفقيه) بما يوجبه العلم من طاعة كأمر بمعروف ونهي عن منكر (وجد أعواناً) يظاهرونه ويناصرونه جمع عون وهو الظهير (وإذا تكلم الجاهل) بما يخالف الحق (قهر) بالبناء للمجهول أي خذل وغلب ورد عليه والقهر الغلبة (وإذا أراد بقوم شراً أكثر جهالهم وأقل فقهاءهم فإذا تكلم الجاهل) بغير الحق (وجد أعواناً وإذا تكلم الفقيه) بالحق (قهر) أي وجد مقهوراُ وذلك من أشراط الساعة، قال الغزالي: والمراد بالجاهل الجاهل بعلوم الآخرة وإن كان عالماً بعلوم الدنيا تلبس بها رياء ونفاقاً وسمعة وغرضه عاجل حظ الدنيا وهو مظهر من نفسه خلاف ذلك كالعلماء السوء والقراء السوء أولئك بغضاء الله في أرضه انتهى (أبو نصر) محمد بن إسحاق (السجزي) بكسر المهملة وسكون الجيم وزاي نسبة إلى سجستان كما مر (في) كتاب (الابانة) عن أصول الديانة (عن حبان) بكسر المهملة وشد الموحدة التحتية (ابن أبي جبلة) بفتح الجيم والموحدة تابعي ثقة له إدراك. - (فر عن ابن عمر) بن الخطاب وفيه الحسن بن علي التميمي. قال في الميزان عن الخطيب وبقية غير حجة. 390 - (إذا أراد الله بقوم خيراً أمدّ) أي طول (لهم في العمر) بالفتح وبالضم وبضمتين أي في الحياة ليكثروا من الطاعة ويعظم ثوابهم والمد الامهال والزيادة يقال مد الله في عمره أمهله وطوله (وألهمهم الشكر) أي ألقى في قلوبهم ما يحلهم [ص 262] على شكر المنعم الموجب للمزيد وهو صرف العبد جميع ما أنعم الله به عليه إلى ما خلق لأجله أو الإتيان بما يفيد التعظيم على النعمة سواء كان ثناء أو غيره وذلك بأن يتأمل الواحد منهم حاله بعين قلبه فينظر فإذا هو غريق في بحار منن الله وأياديه وتأييده من كثرة ما أنعم الله عليه من إمداد التوفيق والعصمة وأنواع التأييد والحراسة وأشفق أن يكون منه إغفال الشكر فيقع في الكفران فينحط عن المنازل العالية وتزول عنه تلك النعم حتى يقع في سهل الفضل وصحراء الشوق وعرصات المحبة ثم في رياض الرضوان وبساتين الأنس إلى بساط الانبساط ومرتبة التقريب ومجلس المناجاة ونيل الخلع والكرامات فهو يتنعم في هذه الحالة ويتقلب في طيها أيام بقائه في هذا السجن إلى دار القرار فيلقى هناك من سيده من اللطف والعطف والترحيب والتقريب والإنعام ما لا يقيد به وصف واصف ولا نعت ناعت - (فر عن أبي هريرة) لم يرمز له بشيء وفيه عنبسة بن سعيد تركه الفلاس وضعفه الدارقطني. 391 - (إذا أراد الله بقوم خيراً) قال بقوم ولم يقل بالناس لأن هذا العالم لا يكمل نظامه إلا بوجود الشر فيه ومن جملته إمارة السفهاء وحكم الجهلاء فلا تخلو الأرض من ذلك فإذا أراد بأهل قطر مخصوص خيراً عمل بهم ما ذكره بقوله (ولى عليهم حلمائهم) جمع حليم والحلم بالكسر الأناة والتثبت (وقضى) أي حكم (بينهم علماؤهم) أي صير الحكم بينهم إلى العلماء بأن يلهم الإمام البحث عمن فيه الأهلية ويؤثره بالولاية على أهل الجهل والغواية (وجعل المال في سمحائهم) أي كرمائهم جمع سميح وهو الجيد الكريم وذلك ليخرج أحدهم الزكاة بطيب نفس ويقوم بما تقتضيه مكارم الأخلاق من مواساة ذوي الضرورات والحاجات ويتساهل في المعاملات وذلك من علامة رضا الله عن الناس، وقد أخرج ابن عساكر عن قتادة قال موسى عليه الصلاة والسلام يا رب أنت في السماء ونحن في الأرض فما علامة غضبك من رضاك قال إذا استعملت عليكم خياركم فهو علامة رضاي وإذا استعملت عليكم شراركم فهو علامة سخطي عليكم (وإذا أراد الله بقوم شراً ولى عليهم سفهاءهم) أي أخفهم أحلاماً وأعظمهم طيشاً وخفة وهذا إشارة إلى التحذير من إمارة السفهاء ومن فعلهم وما يترتب عليه من الظلم والكذب وما يؤدي إلى طيشهم وخفتهم من سفك الدماء والفساد في الأرض (وقضى بينهم جهالهم) بالأحكام الشرعية (وجعل المال في بخلائهم) الذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله ولا يقرون الضيف ولا يعطون في النائبة وإصلاح ذات البين مع القدرة ونحو ذلك ولو ولى عليهم سفهاءهم وجعل المال في سمحائهم أو عكسه لم يدل على خير ولا شر فيما يظهر. - (فر) وكذا ابن لال وعنه خرجه الديلمي فكان الأولى عزوه إليه لأنه الأصل (عن مهران) قال في الفردوس أظنه مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في مسنده وله صحبة انتهى وإسناده جيد ولم يرمز له بشيء. 392 - (إذا أراد الله بقوم نماء) بالفتح والمد أي زيادة في الخير وسعة في الرزق يقال نما الشيء ينمى كثر (رزقهم السماحة) أي السخاء (والعفاف) بالفتح والتخفيف الكف عن المنهي شرعاً وعن السؤال من الناس (وإذا أراد بقوم اقتطاعاً) أي يسلبهم ويقطع عنهم ما هم فيه من خير ونعمة وبركة، افتعال من القطع الإبانة من قولهم اقتطع من ماله شيئاً أخذه يعني أراد أن يأخذ منهم ما خولهم ومنحهم (فتح عليهم باب خيانة) أي نقص بما ائتمنوا عليه من حقوق الله تعالى [ص 263] وحقوق خلقه فإن الأمانة تجلب الرزق والخيانة تجلب الفقر كما في خبر يأتي، والتعبير بالفتح مجاز أو تهكم إذ هو لا يستعمل إلا في الخير غالباً والقصد الترغيب في هاتين الخصلتين والترهيب عن ضدهما. قال الراغب: الخيانة والنفاق واحد إلا أن الخيانة يقال اعتباراً بالعهد والأمانة والنفاق يقال اعتباراً بالدين ثم يتدخلان فالخيانة مخالفة الحق بنقض العهد في السر ونقيض الخيانة الأمانة والاختيان تحرك شهوة الإنسان ليتحرى الخيانة، وظاهر صنيع المؤلف أن هذا هو الحديث بتمامه ولا كذلك بل بقيته - (طب وابن عساكر) وكذا الدارمي والديلمي (عن عبادة بن الصامت) ولم يرمز له بشيء. 393 - (إذا أراد الله بأهل بيت خيراً أدخل عليهم الرفق) بكسر الراء وفي نسخ أدخل عليهم باب الرفق وذلك بأن يرفق بعضهم ببعض والرفق لين الجانب واللطف والأخذ بالأسهل وحسن الصنيع. قال الزمخشري: الرفق اللين ولطافة الفعل ومن المجاز هذا الأمر رفق بك وعليك ورفيق نافع وهذا أرفق بك وقال الغزالي: الرفق محمود وضده العنف والحدة والعنف ينتجه الغضب والفظاظة والرفق واللين ينتجهما حسن الخلق والسلامة والرفق ثمرة لا يثمرها إلا حسن الخلق ولا يحسن الخلق إلا بضبط قوة الغضب وقوة الشهوة وحفظهما على حد الاعتدال ولذلك أثنى المصطفى صلى الله عليه وسلم على الرفق وبالغ فيه. - (حم تخ هب عن عائشة) قالت قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم يا عائشة ارفقي ثم ذكره (البزار) في مسنده (عن جابر) رضي الله عنه قال الهيتمي كالمنذري رجاله رجال الصحيح انتهى وبه يعرف أن اقتصار المصنف على رمزه لحسنه غير حسن وكان حقه الرمز لصحته. 394 - (إذا أراد الله بعبيد خيراً رزقهم الرفق في معايشهم) أي مكاسبهم التي يعيشون بها جمع معيشة ولهذا لا تهمز (وإذا أراد بهم شراً رزقهم الخرق) بضم أوله المعجم وسكون الراء ضد الرفق (في معايشهم) والخرق شؤم كما يجيء مصرحاً به في خبر فالمراد إذا أراد بأحد خيراً رزقه ما يستعين به مدة حياته ووفقه في الأمور ولينه في تصرفه مع الناس وألهمه القناعة والمداراة التي هي رأس العقل وملاك الأمر وإذا أراد به سوءاً ابتلاه بضد ذلك والأول علامة حسن الخاتمة والثاني بضده - (هب عن عائشة) لم يرمز له بشيء وهو ضعيف فيه سويد بن سعيد فإن كان الدقاق فقال الذهبي منكر الحديث أو غيره فقال أحمد متروك وأبو حاتم صدوق. 395 - (إذا أراد الله برجل) أي إنسان ولو أنثى (من أمتي) أمة الإجابة (خيراً) أي عظيماً كما يفيده التنكير (ألقى) من الإلقاء وهو الإيقاع بقوة (حب) أي محبة (أصحابي في قلبه) فمحبتهم علامة على إرادة الله الخير لمن يحبهم كما أن بغضهم علامة على عدمه وفيه دلالة على إناقة قدرهم وسمو مجدهم كيف وقد قارعوا دون المصطفى صلى الله عليه وسلم ودينه وكشفوا الكرب عن وجهه وبذلوا الأموال والأنفس في نصرته؟ والمراد محبة الصحابة رضي الله عنهم كلهم حتى أن من أحب بعضهم وأبغض بعضهم لا يكون ذلك علامة على إرادة الخير به وقد اتفق أهل السنة على أن جميع الأصحاب عدول لكن قال المازوي في البرهان لسنا نعني بقولنا الصحابة عدول كل من رآه صلى الله عليه وسلم يوماً مّا أو زاره وقتاً مّا أو اجتمع به لغرض مّا أو انصرف عن قرب بل الذين لازموه وعزروه واتبعوا النور الذي أنزل معه أولئك هم المفلحون انتهى قال العلائي وهو غريب. - (فر عن أنس) لم يرمز له بشيء فهو ضعيف لكن له شواهد. [ص 264] 396 - (إذا أراد الله بالأمير) على الرعية وهو الإمام ونوابه (خيراً جعل له وزيراً) من الوزر وهو الثقل لتحمله عن الملك أو من الوزير وهو الملجأ لاعتصامه برأيه وإلتجائه إليه أو من المؤازرة وهي المعاونة (صدق) أي صالحاً صادقاً في نصحه ونصح رعيته قال الطيبي: أصله وزير صادق ثم قيل وزير صدق على الوصف به ذهاباً إلى أنه نفس الصدق ثم أضيف لمزيد الاختصاص بالقول ولم يرد بالصدق الاختصاص بالقول فقط بل بالأقوال والأفعال (إن نسي) شيئاً من أحكام الشرع وآدابه أو نصر المظلوم أو مصلحة الرعية (ذكره) بالتشديد أي ما نسيه ودله على الأصلح والأنفع والأرفق (وإن ذكر) بالتخفيف أي الأمير واحتاج لمساعدة (أعانه) بالرأي أو اللسان أو البدن أو بالكل (وإذا أراد به غير ذلك) أي شراً ولم يعبر به استهجاناً للفظه واستقباحاً لذكره (جعل له وزير سوء) بالفتح والإضافة (إن نسي لم يذكره وإن ذكر لم يعنه) على ما فيه الرشد والفلاح بل يحاول ضده وذلك علامة سوء الخاتمة كما أن الأول علامة حسنها قال في الكشاف: والسوء الرداءة والقبح في كل شيء.
|